مرت الساحة السياسية والحزبية في البلاد من مرحلة البحث عن العصفور النادر لكرسي قرطاج إلى مسار آخر يلوح عسيرا في اختيار «عصفور» أو ساكن القصبة الجديد في ظل تباين حاد للمواقف والخيارات بين النهضة وحلفائها المفترضين في تشكيل الحكومة وأيضا في الداخل «النهضاوي».
وإن بدا ظاهريا من خلال مخرجات اجتماع مجلس شوري النهضة، الملتئم نهاية الاسبوع، تمسك الحركة بخيار رئيس حكومة من بين قياداتها، إلا أن التسليم بقاعدة أن «السياسية فن الممكن» لا يسقط فرضية ترك الباب مواربا لتفاهمات وتنازلات أخرى ممكنة في حسابات النهضة التى تتقن جيدا أسلوب التصعيد والمناورات السياسية والأهم تجاوز الأسوأ والخروج بأخف الأضرار.
تعلم جيدا حركة النهضة أن اختبار تشكيل الحكومة سيكون الأصعب لا سيما وأن الوضع شبيه بالسير في حقل من الألغام يتطلب مراعاة شروط حلفائها الطبيعيين أو المفترضين تحت قبة البرلمان ومسايرة جبهتها الداخلية حفاظا على تماسكها ولاحتواء الغاضبين دون أن تغفل طمأنه الخارج وشركاء تونس فبعضهم يراقب بحذر تطورات المشهد السياسي الداخلي على ضوء نتائج انتخابات خلطت أوراق الجميع دون إستثناء. إكراهات الواقع
وأمام هذه التحديات لن يكون من السهل على حركة النهضة القفز على شروط الأحزاب الفائزة في الانتخابات التشريعية لا سيما التيار الديمقراطي وحركة الشعب المتمسكين بعدم المشاركة في حكومة ترأسها النهضة. ورغم اعتبار مواقف الحزبيين تصعيدية مجحفة في صفوف جزء كبير من قواعد النهضة إلا أن إكراهات الواقع ووجود آراء نهضاوية داخلية ترجح كفة التوافق من جديد كقاعدة للحكم خلال السنوات الخمس القادمة قد تدفع بالحزب الفائز بالمرتبة الأولى إلى مراجعة حسابات التمترس وراء فرض رئيس حكومة نهضاوي.
نشير في هذا السياق إلى إلتقاء تصريحات الأمين العام لحركة الشعب زهيّر المغزاوي أول أمس لوكالة تونس إفريقيا للأنباء مع ما تضمنته مداخلة القيادي لحركة النهضة لطفي زيتون التى ألقاها خلال اجتماع مجلس الشورى آخر الأسبوع ونشرها على حسابه في الفايسبوك.
ففي الوقت الذي قال فيه المغزاوي إنّ حركة الشعب لن تشارك في الحكومة التي ستشكّلها حركة النهضة وأنّها متمسّكة بمقترحها المتعلّق بـ»حكومة الرئيس» والتي أسيء فهمها من قبل البعض. مؤكدا على ضرورة استفادة البلاد والمشهد السياسي عموما من التفويض الشعبي الكبير الذي تحصّل عليه رئيس الجمهوريّة، وأنّ إشراف الرئيس على عمليّة تشكيل حكومة سيسهّل عملها مستقبلا وستجد لمشاريعها وتصوّراتها سندا شعبيّا يساهم في إنجازها، مبينا أنّ تمسّك حركة النهضة بتشكيل حكومة سليم من الناحية الدستوريّة لكن سيؤدّي إلى الفشل خاصّة وانّ النهضة، وفق تعبيره، كانت جزءا من منظومة الفشل وستعمل على إعادة إنتاجه.
أشار أيضا لطفي زيتون إلى رمزية رئيس الجمهورية قيس سعيد قائلا أن انتخابه حمل «رمزيتين الاولى ايذان بسقوط منظومة الفشل التي هيمنت على البلاد لمدة ثلاث سنوات كبيسة اوشك فيها الاقتصاد الوطني على الانهيار وانتشر الفقر حتى اصبح احد اهم العوامل التي يصوت على اساسها التونسيون ..
والرمزية الثانية لما تحصل عليه من شرعية كاسحة اخترقت كل الاطياف السياسية والايديولوجية هي انحياز الشعب وانتصاره الواضح لمقولة التوافق التي ابتدعها الذكاء التونسي الخلاق وصنع بها الاستثناء التونسي اذ اجتمع في مشهد استثنائي كل العائلات السياسية مع كتلة مليونية من العازفين تقليديا عن المشاركة».
ويضيف زيتون أن النهضة مطالبة «بعد ان مالت خلال الحملة ميلا خطير الى اقصى اليمين ان تعود الى الوسط وان تنخرط في التوافق من جديد.. توافق مبني على الصورة التي رسمها الشعب لرئيسه: التواضع الارتفاع عن الانتماءات نظافة اليد محاربة الفساد الاعتماد على الكفاءة الشخصية في التصعيد الانتخابي وليس القوائم المجهولة..». ملامح الحكومة القادمة
نشير أيضا إلى أن الكثير من القراءات تؤكد على أهمية توفر جملة من المواصفات في رئيس الحكومة القادمة وفي التشكيلة الحكومية برمتها تأخذ بعين الإعتبار الموازنة بين طبيعة المشهد البرلماني الذي أفرزته الانتخابات وصعوبة الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في البلاد وذلك يقتضى بالضرورة مشاركة سياسية واسعة لمختلف القوى السياسية والشخصيات الوطنية المستقلة على قاعدة الكفاءة والنزاهة.
ويعد الدور الذي سيلعبه ساكن القصبة القادم محوريا إلى جانب رئيس الجمهورية في بلورة تصور جديد لمفهوم حكومة وحدة وطنية لا على أساس المحاصصة والمناورات كما حصل ابان مخاض وثيقة قرطاج بل على قاعدة الاتفاق على برنامج للانقاذ الإقتصادي والإصلاحات العاجلة بدعم واسع من القوى السياسية والمنظمات الوطنية مع انخراط شعبي لتفهم الخيارات الموجعة.
على هذا الأساس لن يكون من مصلحة النهضة التمسك بفرض خياراتها على اعتبار أن تمسكها بترؤس الحكومة لن يكفل توفر جميع الضمانات في مرحلة دقيقة. وفي جزء من مداخلته أمام مجلس الشورى أشار لطفي زيتون إلى المواصفات المطلوبة في رئيس الحكومة القادمة قائلا أنه يجب أن «يكون شخصية سياسية كبيرة مقبولة داخليا وخارجيا ينخرط في اعادة تجميع التونسيين في مشروع وطني جامع واخلقة السياسة.. والاستجابة لطموحات الشباب ومطالبه وهذا بالتعاون الوثيق مع رئيس الجمهورية وفي اطار شرعيته الواسعة التي تشمل كل الاطياف السياسية دون استثناء..».
ويصيف زيتون «هناك فرصة اليوم لمصالحة الشعارين الذين تسبب تصادمهما في تراجيديا نهايات حكم الباجي قايد السبسي رحمه الله : التوافق والاستقرار الحكومي، وتحتاج الحركة التي بوأها الشعب المرتبة الاولى مع ما يقتضيه ذلك دستوريا والبلاد لعقل سياسي خلاق يوافق بين الشعارين وليس ذلك مستحيلا اذا خلصت النوايا ووقع اعلاء مصلحة الوطن والدولة والتجرد عن الاطماع الحزبية والفئوية والشخصية».
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.