لسطور الأولى من الملف الذي نشرته مجلة “Esquire” الأمريكية مؤخراً بمناسبة ذكرى إلقاء القبض على صدام حسين، شدّت انتباهي خلال رحلتي في القطار الذي حملني الى وجهتي في أوكلاند. كما لو كنت أشاهد فيلماً وثائقياً مثيراً، رحت أقرأ المقابلات العديدة التي تضمّنها مع عسكريين وساسة ومترجمين وأطباء كانوا على تماس مع العملية الشهيرة وساهموا في الإعداد لها وتنفيذها بشكل مباشر أو غير مباشر… يتخذ الملف من الظهور الأخير للرئيس السابق في شوارع بغداد في شهر نيسان واختفائه الذي تلا دخول القوات الأمريكية منطلقاً لسرد تفاصيل رحلة البحث الصعبة عنه، والتي استمرت قرابة تسعة شهور حتى كاد الأمل بالعثور على “الهدف الثمين رقم واحد” يتلاشى تماماً.
العراقيون كانوا يخافونه ويخشون من عودته الى السلطة،” يقول اللواء راي أوديرنو، قائد فرقة المشاة الرابعة، موضحاً “كان قوياً لدرجة جعلته شبيهاً بالشخصيات الأسطورية الخارقة، كما لعب نجاحه في الفرار دوراً في ترسيخ أسطورته في نظر العوام على نحو متزايد”.
آلية البحث عن صدام
أدرك الأمريكيون أن تتّبع آثار مسؤولي النظام السابق الذين ظهرت صورهم على أوراق اللعب الشهيرة لن يقودهم الى العثور على صدام حسين، فالأخير كان مرتبطاً بشبكة مختلفة من الأقارب ومعارف الطفولة، الأمر الذي رجح كفة لجوئه الى تكريت والمناطق المحيطة بها حيث وُلد وعاش لسنوات طويلة قبل قدومه الى العاصمة. “لو نظرنا الى اقتفاء آثار زعيم تنظيم (القاعدة) في العراق أبي مصعب الزرقاوي، ولاحقاً أسامة بن لادن، ندرك أن كِلتي العمليتين اعتمدتا على تعقّب الهواتف النقالة التي كانا يستخدمانها ولم يكن باستطاعتهما التحرّك من دونها… مع صدام، كان الأمر مختلفاً تماماً، فلم يكن هناك خط جوال واحد يقودنا إليه، ولذلك تركّزت جهودنا على استجواب المقرّبين منه من السجناء الذين كانوا بحوزتنا”، حسب ما أوضح الرقيب المسؤول عن التحقيق إيريك مادوكس.
نقطة التحوّل
قادت الاستجوابات إلى مزيد من الاعتقالات، ومع التحقيقات المكثّفة مع السجناء الجدد بدأت الشكوك تحوم حول عائلة بعينها هي عائلة المسلط، التي عمل عدد من أفرادها ضمن طاقم حماية صدام. وجاءت نقطة التحول في شهر يونيو، عندما تطوّع اثنان من رجال الأعمال العراقيين بالكشف عن تفاصيل مذهلة عن جهاز الأمن الرئاسي الذي هيمنت عليه نصف دستة من العوائل التي كانت شاهدة على رحلة صعود حسين الى قمة السلطة منذ الخمسينات، كما ارتبطت مع قبيلته بعلاقات قربى ومصاهرة. “الأمر بدا شبيهاً برسم شجرة عائلة لتوني سوبرانو” (الشخصية المحورية في المسلسل الأمريكي الشهير عن رجال المافيا)، والتعليق للمقدم ستيف راسيل الذي كان قائداً للكتيبة الأولى في فرقة المشاة الحادية والعشرين. مع استمرار التحقيقات وتدفق المعلومات برز اسمان بعينهما، كان أولهما “حدّوشي” والآخر هو “محمد ابراهيم المسلط”. تمّ شن غارة على مزرعة الأول، الواقعة في ضواحي تكريت، حيث كانت مفاجأة كبيرة بانتظار الجنود الذين اقتحموا الموقع على غفلة من المتواجدين فيه. ظهر الارتباك جلياً على امرأة بدت فظة للغاية وقد جُن جنونها مع اقتراب القوة المداهمة من الحديقة التي حملت آثار حفر حديثة… ما إن أُزيح جزء من التربة، حتى ظهرت قمة حاوية حديدية مدفونة كانت تضم قرابة عشرة ملايين من الدولارات الأمريكية في رزم أحاطت بها أربطة مصرف “تشيس مانهاتن”. لكن ذلك لم يكن كل شيء.
“في وقت ما، بدا الأمر مماثلاً للبحث عن ألفيس”… قادت وشاية من طفل إلى القبض أخيراً على محمد ابراهيم المسلط، الذي قاد الجنود إلى صدام حسين مقابل وعد تلقاه
توجّه الجنود، المُجهّزون بمعدات الرؤية الليلية، إلى البقعة المذكورة وقاموا بإزالة التربة عن مدخل حفرة تم فتحها وتوجيه أضواء الأسلحة إلى داخلها… “عندما فتحنا الحفرة، بدأ صدام بالصراخ: لا تطلقوا النار، لا تطلقوا النار!”أصابت الصدمة الجنود مع عثورهم على كميات كبيرة من المجوهرات الخاصة بزوجة صدام، ساجدة طلفاح، موزعة على نصف دستة من أكياس القمامة الممتلئة مدفونة في التربة، وكذلك العديد من الوثائق الشخصية المهمة. “كل شيء كان مصنوعاً من الذهب، أقراط وخواتم وخناجر وسواها من النفائس التي كان يجدر أن يتم حفظها ككنز ثمين في خزنة، بالإضافة الى رشاش كلاشينكوف مغطى بالكامل بالذهب”، كما يتذكّر اللواء أوديرنو.
وشاية طفل في التاسعة
شكّلت العملية خرقاً مهماً، لكنها لم تُسفر عن العثور على الرئيس الهارب فيما تصاعدت وتيرة العمليات التخريبية التي كان يقوم بها “الفدائيون”، وهم فلول من أتباع صدام التحق بهم أفراد من ما عُرف بـ”تنظيم القاعدة في العراق”. “في وقت ما، بدا الأمر مماثلاً للبحث عن ألفيس”، علّق الرقيب شون شوفنير، من فصيل الاستطلاع في كتيبة المشاة الأولى، في إشارة الى الأغنية الشهيرة عن ألفيس برسلي، وهو العنوان الذي حمله الملف المنشور في المجلة.
أومأ صدام إلى غرين بقياس ضغط دمه فقد كان يشعر بالتعب، وأبلغه عن طريق المترجم الموجود معهما بأنه كان يطمح الى أن يكون طبيباً خلال سنوات طفولته، لكن السياسة سريعاً ما تمكنت من الاستحواذ على شغفه.
في التاسع من شهر كانون الأول وبعد سلسلة من المداهمات، قادت وشاية من طفل في التاسعة من عمره إلى اجتماع لـ”الفدائيين” في الصحراء الواقعة غربي تكريت الى إلقاء القبض أخيراً على محمد ابراهيم المسلط. بعد ذلك، تمكّن المحقّقون من إقناعه بأن يقودهم الى موضع اختباء صدام حسين مقابل أن يتم إطلاق سراح أربعين من السجناء من أفراد عائلته.
العثور على صدام
الموضع المحدّد كان يقع ضمن أرض تعود ملكيتها الى عائلة قيس نامق في الدور. صدرت الأوامر سريعاً بالمداهمة وشارك قرابة ألف جندي في الإعداد للعملية، التي سُمّيت بـ”الفجر الأحمر”، ومن ثم تنفيذها. تم العثور أولاً على صاحب الأرض وشقيقه وهما من فريق حماية صدام، لكنهما رفضا الإفصاح عن مكانه وحاولا تشتيت القوات المُغيرة، فتمت الاستعانة بالمسلط الذي كان مرعوباً، فأشار بقدمه إلى بقعة غارقة في الظلام. توجّه الجنود، المُجهّزون بمعدات الرؤية الليلية، إلى البقعة المذكورة وقاموا بإزالة التربة عن مدخل حفرة تم فتحها وتوجيه أضواء الأسلحة الى داخلها. “عندما فتحنا الحفرة، بدأ صدام بالصراخ: لا تطلقوا النار، لا تطلقوا النار! صحت به بالعربية بأن يخرج، فرفع يديه عالياً وجذبته منهما الى الخارج”، قال المترجم العراقي المرافق المدعو بسمير، والذي تمكّن من التعرّف على صوت الرئيس السابق على الفور، فقد كان وأفراد عائلته من ضحاياه.
بدأ سمير بكيل الصفعات لصدام، فحال رجال القوات الخاصة بينهما وأبلغوه بألا يمسه بسوء، إذ نصّت الأوامر على وجوب الإبقاء عليه حياً”، حسب ما يذكر جوزيف فرد فيلمور، المترجم من فرقة المشاة الرابعة.
ليلة مع الطبيب
تمّ الزج بالأسير في طائرة مروحية حملته الى مجمّع القوات الخاصة، وبذلك تكون العملية المثيرة قد تكلّلت بالنجاح…
بعدها، قام الحاكم المدني بول بريمر بالاتصال بوزيرة الخارجية كوندليزا رايس لإبلاغها بالنبأ المهم، لكن الشكوك بقيت تراود الرئيس بوش وإدارته في واشنطن حول هوية الشخص المُعتقل وهل هو فعلاً صدام حسين، ما اقتضى أخذ صور عدة له مع بصمات الأصابع وإجراء اختبار الحمض النووي.
“كنت واقفاً خارج الزنزانة عندما لمحني قائد القوات الخاصة وليام مكريفن وقال لي: أحتاج إلى طبيب كي يمضي الليلة مع هذا الرجل، فوافقت على القيام بالمهمة دون تردد”، يروي ذلك الجراح مارك غرين، من وحدة الطيران التابعة للقوات الخاصة رقم مئة وستين. أومأ صدام إلى غرين بقياس ضغط دمه فقد كان يشعر بالتعب، وأبلغه عن طريق المترجم الموجود معهما بأنه كان يطمح الى أن يكون طبيباً خلال سنوات طفولته، لكن السياسة سريعاً ما تمكنت من الاستحواذ على شغفه. “تخيّلت مشهد (جزار بغداد) وهو يؤدي قسم أبقراط ويتعهّد بألا (يلحق الأذى بأحد)، فكان ذلك مدخلي لتبادل حديث مطوّل معه استمر لساعات خمس ونصف شمل أموراً شتى مثل حياته السياسية وسبب غزوه الكويت وشن الحرب على ايران وتطرّق فيه إلى حياته الخاصة أيضاً قبل أن يخلد الى النوم أخيراً وهو يعتقد ربما بأنه سيمضي ما تبقى من حياته في سجن أمريكي لطيف”، تابع الدكتور غرين روايته عن ليلته مع صدام الذي قال إنه وجده جذّاباً، وإن بدا متحفّظاً الى حد ما. الملف طويل وحافل بالتفاصيل التقنية، لكنه جدير بالقراءة بكل تأكيد… ينبغي التوضيح أخيراً بأني تجنّبت ذكر العبارات المسيئة التي وردت على لسان بعض المتحدثين. امتنعت كذلك عن التعليق عما ورد في الشهادات كي لا يجنح النص نحو التحليل واسترجاع الذكريات، وهو ما ضمّنته كتابي الأخير “صدام وأنا ومتلازمة ستوكهولم” عن عصر عاصف عشت في خضمّه، وما زالت تداعيات فصوله ماثلة ومؤثرة في مسار الأحداث ليس فقط في العراق والعالم العربي، بل العالم بأسره.
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.