*حاوره محمد الماطري صميدة
*جريدة الانوار
“احترت آش نهديلك يا حلوة يوم العيد قرب …أجمل ما في الدنيا عندك آش ما زلت تحب” !
ما أروع وأجمل وأعذب كلمات هذه الأغنية التي كانت علامة فارقة وطرازا خاصا في مسيرة وتاريخ الفنان علي الرياحي !وهي إلى الآن تثير الإعجاب و تأخذ بمجامع الألباب…وتتجدد مع الأيام في عالم الحب والأحباب !
ولقد كنا نعرف من يغنيها وهو قطعا علي الرياحي…ولقد يعرف القليلون من كتبها…ولكن الكثيرين قد لا يعرفون قصتها !
ولذلك وحين اقترح علي الفنان الشاب خالد قاسم من المنستير في درشة عبر الهاتف حول واقع الأغنية التونسية أن أبحر في أعماق شاعر أغنية علي الرياحي الرائعة… وأحاوره وأنصفه حين تجاهله الإعلام… تساءلت :هل أن شاعرأغنية “احترت آش نهديلك” ما زال يعيش بيننا حقا؟
ثم لم أتردد لحظة في الإتصال بالشاعر الغنائي الكبير قاسم عبد القادر …فانطلق الرجل بلا مقدمات يلقي على مسامعي عددا من قصائده العاطفية العذبة باللهجة التونسية واللغة العربية…فشعرت بقشعريرة الزمن الجميل …واعتقدت للحظات من وحي جمال وروعة وقوة ومتانة الكلمات أني أستمع إلى “أحمد رامي تونس”…ولقد أدركت لوعة الحب وقسوة الفراق وحلاوة اللقاء فى عامية قاسم عبد القادر الجميلة و الفصيحة! ولقد عرفت كل ذلك- من قبل- عبر حنجرة علي الرياحي الذهبية في أغنية “احترت آش نهديلك”… !
ومع قصة الأغنية وصاحب الاغنية كان هكذا الحوار الشيق والرائق !
- قلت للشاعر الكبير قاسم عبد القادر “احترت آش نهديلك”… حتى أعرف من أنت؟
- فقال متدفقا :أنا الشاعر والرسام والمذيع والملحن قاسم عبد القادر وأيضا صانع الموبيليات الإيطالية الفخمة …أبلغ من العمر 72 سنة أصيل مدينة جمال من ولاية المنستير وصاحب النشيد الرسمي للمغرب العربي وملحنه الذي يقول “قسما بالعلم والكتب ووحدة مغربنا العربي.”
وكنت أول من قام بالبث المباشر في الإذاعة من خلال برنامج أغنية لكل مستمع وكان مرتبي 37 دينار …ويا لذلك الزمن الجميل …لقد كان زمنا جميلا وعذبا ورائعا وفيه تضحيات جسام وفيه إبداع …وبالإبداع تزدهرالأمم وتنمو الأوطان. - قبل أن نواصل الحديث عن تاريخك الحافل … ما قصة أغنية “احترت آش نهديلك” الرائعة والخالدة؟
- لقد صهرتني الأحداث والآلام والفقر حين تجرعت عذابات الحب العاطفي وكان عمري وقتها 18 سنة وكنت حديث عهد بالعاصمة …وقرب العيد وقتها واحترت ماذا أهدي لحبيبة قلبي بمناسبة العيد فتدفقت قريحتي وكتبت “احترت آش نهديلك يا حلوة يوم العيد قرب “…ولقد شعرت بأن الكلمات تصلح لأن تكون أغنية يمكن أن يكون لها شأن كبير عبر حنجرة علي الرياحي …وقلت لأصدقائي سألتقي سيدي علي الرياحي وأهديه كلمات الأغنية فتعجبوا وانتظروا القاء…وبحثت عن سيد علي في ستينات القرن الماضي ووجدته يجلس في قهوة “TELE STAR ” في لافيات…وقلت له عندي لك كلمات …فقال لي “هات سمعني”…فقلت له “احترت آش نهديلك يا حلوة يوم العيد قرب”…فقال لي “اجلس وأكمل القراءة…ولكن قبل ذلك آش تشرب”…وأكملت قراءة الكلمات …وطلبت “قازوزة فانتا” !
كنت وقتها طالبا بالمعهد العالي للفنون المسرحية وكنت أنال منحة قدرها 15 دينارا وكانت ثروة بالنسبة إلي وقتها …ولكن أن أجلس إلى سيدي علي الرياحي ويسمعني وتعجبه كلماتي فلقد أدركت وقتها أني قد حققت حلم حياتي.
*وماذا حدث بعد أن سمعك علي الرياحي؟
-عدت إلى المبيت وأنا في قمة السعادة والفرح …وليلة العيد أعلن عادل يوسف في برنامجه “تحية الغروب” عن ميلاد أغنية جديدة لعلي الرياحي عنوانها “احترت آش نهديلك يا حلوة يوم العيد قرب “من كلمات قاسم عبد القادر… وهنا انتفضت فرحا وشعرت بقيمة ما كتبت… وسمعت الحبيبة قطعا بالأغنية وكانت تلك هديتي إليها…وحققت الأغنية نجاحا باهرا في ذلك الوقت …وما زالت تعيش إلى حد الآن لانها أغنية صادقة من أعماق قلبي …ولقد أبدع علي الرياحي في غنائها …ولعله كان هو الآخر عاشقا ولهانا في تلك الفترة …ومن يدري؟
*لماذا لم تواصل التعامل بعد ذلك مع علي الرياحي؟ - طبعا في ذلك الوقت كانت عملية التواصل الوحيدة هي الجلوس في مقهى الفنانين والنجوم قرب الإذاعة …وبصراحة لم أعاود الإتصال بسيدي علي الرياحي في حينها ولم يبحث عني هو أيضا وذلك لأنه مات بعد الأغنية بأشهر قليلة .
ولكن ما أؤكد عليه في كلمة حق لهذا الرجل أنه كان فنانا رائعا وكبيرا وذواقا وأنيقا وصاحب حنجرة ذهبية … كان تونسي الوجدان، شرقي الفن وأوروبي الفكر وكان مثقفا ويتذوق الكلمة العذبة …فلقد أعجبته أغنيتي من أول مقطع ومن أول نظرة ومن أول مرة ! - هل غير علي الرياحي في كلمات الأغنية؟
- لا لم يفعل ذلك ولكن هذا المقطع في الأغنية لم يغنه علي الرياحي والمقطع يقول” جيت نهديلك عسل النحلة …عسل النحلة بنين…نلقى ريقك أحلى وأحلى يا كاملة الزين” !
*قلت للشاعر قاسم عبد القادر : من له الفضل في وضع بصماته الأولى عليك؟ - قطعا أمي”حبيبة” فلقد طلق أبي أمي وكان عمري 7سنوات .. لقد كانت أمى حنانا بلا حدود، وشربت أخلاقها وعاداتها! لقدعلمتنى أمى أن الفلوس وسيلة وليس غاية…ولقد كابدت الظروف الصعبة حيث دخلت العاصمة لأول مرة بدينار واحد اقترضته أمي من بنت خالتها… دينار واحد كان هو ثمن التنقل من سوسة إلى العاصمة …ولقد عملت بعد ذلك وكافحت ونجحت واشتريت العمارة التي كنت أقطن فيها في نهج الشاذلي قلالة…لقد فتحها الله علي فتحا كريما فتوسعت دائرة أعمالي وبنيت عمارة أخرى في شط مريم ..ونجح أبنائي في دراستهم… ففيهم المحامية والمختصة في الإعلامية والمختصان في الفحص الفني للسيارات والحمد لله …لقد دخلت إلى العاصمة فقيرا وخرجت منها وأنا مليونير …وأما بنعمة ربك فحدث !
*قاطعت الشاعر وسألته: هل تزوجت من حبيبة قلبك في الأغنية؟ - لا بالطبع …فلقد خلدتها الأغنية في قلب كل من سمع الأغنية …العجيب في الحكاية أننا تواصلنا مؤخرا بالفايسبوك بعد عدة عقود من الفراق …لقد بحثت عني هي ووجدتني واتصلت بي …وتحدثنا عن أيامنا الخوالي…ولكن لم أعد أنا أنا ولم تعد هي …هي …ولعل أجمل قصص الحب الخالدة هي التي لم تتوج بالزواج !
ولقد أعترف لك أنى وقتها كنت صغيرا و أحببت فتاة صغيرة وكان حبا صامتا، وكانت عاطفتى ملتهبة… ولم أكن أحب التغزل بالعيون أو بالقوام، لكنى كنت أتغزل بالوفاء والبعد والقرب…على كل حال فلقد تعلمت أيضا أن الزمن هو أعظم طبيب وهو من يعالج صدمات الحب والآهات !
*قلت للشاعر قاسم عبد القادر: هل قابلت الزعيم بورقيبة؟
-طبعا قابلته في العكاظيات التي كان يقيمها بقصره في المنستير وكتبت فيه أقول” ستظل فينا فكرة تلد ما دام فينا الروح والجسد”…وقلت للزعيم الخالد ستبقى خالدا وسيبقى فكرك خالدا…وكان يعجبه كلامي .
وحتى الباجي قايد السبسي كنت أقابله وكان صديقي الخالد ولقد كان يقول لي عندما يراني “آش كتبت جديد يا شاعر تونس”؟…ولقد كتبت فيه أرثيه”في عيد الجمهورية فارقت الجمهورية…دائما مع المواعد حتى مع المنية…ذكراك سوف تبقى طوال الدهر حية” ! - وسألت الشاعر قاسم عبد القادر: لمن كتبت من الفنانين؟
- قال بسرعة: لزهيرة سالم أغنية “كيفاش جفيتك …في لحظة رميتك ونسيتك”ونعمة “قلبي خالي” ومحمد أحمد وسليم دمق وغيرهم …وفي رصيدي 25 أغنية وما زلت أبدع وأرى نفسي كثيرا في الكتابة الشرقية
- سألته: كيف ترى الساحة الفنية الآن؟
قال: طبعا الفن رديء …والساحة أشبه بسوق ودلال ولكن ينقصها الحرفيون الحقيقيون …ولا بد من اصطفاء خلة من الزمن الجميل …وهي العودة إلى مقهى الإذاعة حيث كان يلتقي الشعراء والفنانون ويتبادلون الأراء ويشترون ويبيعون الكلمات الجميلة الرائعة الخالدة إلى حد الآن…وعلى الإذاعة أن تعود إلى شراء كلمات الأغاني بلجنة تنتقي الكلمات الراقية والجميلة كما كانت تفعل سابقا واهدائها إلى الفنانين والملحنين …وهكذا يعود للفن رونقه وتعود للأغنية جودتها وروعتها وبهجتها ! - وطال الحديث وطال وقلت لشاعرنا بأي كلمة تريد أن تختم هذا المقال؟
فقال :حافظوا على تونس يرحمكم الله …فتونس درة لن تجدوا مثلها أبدا !
التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.